بينيت والسيسي وحرب الأيام العشرة
بداية يجب الوقوف عند خلفية الحكومة الجديدة في دولة الاحتلال الصهيوني، لكي نفهم المنطلقات التي يمكن أن تبني مواقفها عليها. وللتعرف على الحكومة يجب الوقوف عند الفاعلين فيها أو المؤثرين بشكل كبير، ولا سيما أن هذه الحكومة لم يجمعها الكثير من المشتركات الأيديولوجية، بقدر اجتماعها على الإطاحة بنتنياهو.
ومن أبرز وجوه الحكومة الجديدة وزير الدفاع بيني غانتس الذي يرأس “أزرق أبيض” وعاد من صفوف حكومة نتنياهو لصفوف المعارضة، بعد أن أغضبت الخطوة مناصريه لما يرون من تنازلات يقدمها نتنياهو للفلسطينيين! لذا فالرجل عاد ليثبت أنه أكثر تشددا. والوجه الثاني المؤثر في هذه الحكومة، هو أفيغدور ليبرمان وزير المالية في الحكومة الحالية ووزير الدفاع السابق الذي يتزعم حزب “إسرائيل بيتنا”، وله تصريحات مثيرة للجدل كتهديده بتدمير السد العالي في مصر إبان الثورة المصرية، وإعدام المعتقلين الفلسطينيين، واغتيال إسماعيل هنية، وتحريضه الدائم على شن حرب على غزة والخلاص من “صداع المقاومة”، وهي تصريحات تعكس أيديولوجيته اليمينية المتطرفة.
أما الشخصان المتناوبان على رئاسة الحكومة فمواقفهما متباينة وإن كانا يصلان إلى نفس النتيجة، فلبيد الرئيس المناوب للحكومة الجديدة والذي يأتي من تيار الوسط، لطالما نسق خلال السنوات الماضية مع الأحزاب اليمينية، وهو ما يجعل تعاونه مع رئيس الوزراء الذي سيتولى الفترة الأولى من عمر الحكومة نفتالي بينيت ممكنا إلى حد بعيد، ومع الوضع في الاعتبار أن بينيت كان يمثل اللوبي الضاغط للمستوطنين في الكيان المحتل لسنوات عديدة، والمتماهي مع الأحزاب اليمينية المتشددة، فيمكن أن نؤكد أن حكومة أكثر تشددا باتت تتصدر المشهد في الكيان الإسرائيلي.
وعندما نضع في الحسبان تلك القنابل الموقوتة التي تركها نتنياهو أمام الحكومة الجديدة، وعلى رأسها قطاع غزة بعد الهزيمة المذلة في معركة “سيف الأقصى”، يمكن الاستنتاج أن المطالبات برد الاعتبار ستكون على رأس أولويات حكومة بينت-لبيد الجديدة.
رؤية النظام المصري للقضية الفلسطينية
لطالما وعى الساسة المصريون -منذ بداية أزمة فلسطين- أهمية القضية، وكونوا بذلك رؤية ظلت على مدى عقود منهاجا لسياستهم، فتحمل الملك فاروق عبء إرسال الجيش المصري لفلسطين للذود عن شرف الأمة وقضيتها المحورية ومقدساتها، وظلت القضية الفلسطينية محور السياسة المصرية ولا سيما بعد انخراطها المباشر في صراع مع العدو المحتل حتى اتفاقية كامب ديفيد، وعلى الرغم من توقيع الاتفاقية ظلت القيادة المصرية ماسكة بطرف زمام القضية، وعادت لتمسك بمقاليدها بعد المصالحة العربية مع مصر، وأصبحت القاهرة محط أنظار العالم سواء في السلم أو الحرب بين الفلسطينيين والاحتلال، ومحل هندسة تفاهمات تصل لاتفاقيات بين العرب والاحتلال في أوسلو أو وادي عربة.
وظلت ورقة فلسطين بيد القيادة السياسية المصرية قبل الثورة تراوغ بها كلا من واشنطن أو حتى تل أبيب لتحصيل المكاسب المطلوبة بحسب المرحلة، ولعل موقف القيادة المصرية بعد الثورة كان واضحا، ولا سيما عندما حاول الاحتلال اختبارها بشن حرب على غزة، فكان الرد قويا وغير متوقع، ولعل إرسال الرئيس مرسي رئيس وزرائه إلى غزة تحت القصف كان رسالة فصل بوجوب وقف العدوان، وهو ما حدث.
لكن النظام المصري الحالي، وبعد انقلاب 3 يوليو/تموز اتخذ موقفا مغايرا 180 درجة، باتهام المقاومة بزعزعة الاستقرار في مصر وتدخلها في الشؤون الداخلية، حتى أن عددا من القضايا لفقت لعناصر قيادية في المقاومة، منهم من مات قبل تلك القضايا بسنوات، لإظهار المقاومة في غزة بمظهر الشيطان الواجب محاربته، فأغلق المعابر وشدد الحصار، بل ارتكب عددا من الانتهاكات التي راح ضحيتها مدنيون من غزة، بل حرض الاحتلال على اقتلاع المقاومة في حربه على غزة في 2014، قبل أن تفرض المقاومة وحاضنتها الشعبية شروطها بصمودها.
سيف الأقصى وتحولات النظام المصري
لعل معركة سيف الأقصى وما نتج عنها من هزيمة مذلة للكيان المحتل فاصلة في التحولات التي شهدها النظام المصري الحالي، لكن التحولات المصرية باتجاه القضية الفلسطينية وفي القلب منها الطرف المزعج للاحتلال والمتمثل في غزة ومقاومتها، لم تبدأ بمعركة سيف الأقصى، ولم تكن الدافع لتحرك القاهرة باتجاه غزة، وإنما المحرك الحقيقي يرجع إلى أمرين:
- الأول يتمثل في إدراك الدولة العميقة في مصر -والتي تم تهميشها منذ الانقلاب على حساب الولاءات والثقة- أن مكانة مصر الحقيقية تتمثل في امتلاكها لزمام القضية الفلسطينية، القضية المحورية في الشرق الأوسط ومناط اهتمام القوى العظمى في العالم وعلى رأسها أميركا، كما أن الملفات الملتهبة في المنطقة كالأزمة السورية والليبية تم تبريدها، والأزمة اليمنية مرهونة بابتزاز السعودية والإبقاء على توازن الصراع بينها وبين إيران من ناحية، وأن الموجة الثانية من الربيع العربي تم التحضير للتعامل معها، ومن ثم فإن القضية المحورية في المنطقة ستعود للواجهة، فعلى النظام المصري أن يعيد تموضعه ليصبح في واجهة الأحداث، ولا سيما أن القضية الفلسطينية فرصة ذهبية للتعافي من أزمة الشرعية التي عانى منها طوال الفترة الماضية.
- أما الأمر الثاني فهو محاولات كل من السعودية والإمارات خطف دور الريادة من القاهرة، فالأولى تسعى لذلك منذ زمن ما قبل الثورة المصرية، ولعل مبادرة الرياض لحل القضية الفلسطينية مثال على تلك المحاولات بما يسمى بمبادرة السلام العربية التي أطلقها الملك عبد الله، وكان يتعامل معها حسني مبارك بمزيد من الدهاء من خلال تمريرها وزيارة أميركا أو إرسال وزير الخارجية إلى تل أبيب، أو استدعاء قيادة المقاومة للقاهرة، لكنه كان دوما يحافظ على أن يبقى ملف القضية بحوزته.
وفي الفترة الأخيرة ومع حالة الرخاوة التي يعيشها النظام في مصر أعادت المملكة الكرة، ولعل زيارة ترامب للمملكة وخطة 2030 التي طرحها ولي العهد وتتضمن في طياتها تعاونا غير معلن مع الاحتلال، يهدف إلى سحب الملف من القاهرة. أما الإمارات فقد جعلت من رفع راية التطبيع مع الاحتلال وسيلة لسحب الملف وتصدر المشهد، ولقد كان لعلميات الشراء والبيع التي تقوم بها جمعيات إماراتية في القدس الشرقية -التي تبين أنها عربون قبول منها لتل أبيب- أثر تأشيرة الدخول لعالم الريادة في القضية الفلسطينية.
لكن المقاومة كان لها رأي آخر بعملية “سيف القدس”، أرغمت الجميع على إعادة تموضعه، وكان تسريع القاهرة في التعاطي مع الأزمة منذ الأيام الأولى بمثابة الفرصة للعودة بقوة للملف، بعد المحاولات السابقة لجمع شتات الفرقاء الفلسطينيين والتي أسفرت عن “اللاشيء”، ولعل اتصال الإدارة الأميركية بالقاهرة بعد 7 أشهر من وصولها البيت الأبيض بمثابة دافع كبير، في ظل أزمة السعودية الحقوقية والإمارات وتعاونها مع الصين.
غزة بين بينيت والسيسي
تشكيل الحكومة الجديدة في الكيان المحتل وخلفياته التي ذكرنا في صدر هذا المقال، تعطي خلفية شبه واضحة لما قد يكون عليه تعاطيها مع غزة وما تشكله من صداع مزمن لدى تل أبيب، فالمتوقع أن تسعى الحكومة الجديدة لرد الاعتبار لكسب ثقة الشارع في المدن المحتلة، ولعل تصريح وزير الأمن الداخلي الجديد عومر بارليف بأنه يتم إجراء تقييم للوضع حول مسيرة الأعلام التي تم إلغاؤها 3 مرات بسبب تهديدات حماس، يدلل على ما نقول، ولعل أيضا تصريحات عضو الكنيست من الصهيونية الدينية إيتمار بن غفير ردا على تهديدات حماس حول مسيرة الأعلام بأنه آن الأوان لأن تهدد “إسرائيل” حماس وليس العكس، هو دليل آخر على نية الحكومة الجديدة.
وإذا ما استكملنا تصريح بن غفير حول نفس الموضوع نجده يؤكد أنه يتوقع من رئيس الوزراء الجديد بينيت الذي شارك أكثر من مرة في مسيرات الأعلام، أن يقف بحزم أمام تلك التهديدات، وهي تصريحات ظاهرها التأييد وباطنها التهديد والإحراج، فحكومة بينيت التي حصلت على الثقة بفارق صوت واحد، تخشى الانهيار في أي وقت، ولتحافظ على بقائها فإن الدم الفلسطيني هو الثمن، ومن ثم فإنه على الجانب الآخر -وهنا أعني القاهرة- أن تضع كل تلك المعطيات موضع الاعتبار في تعاملها مع تل أبيب، ولعل الدور الذي أراده بايدن من القاهرة هو إطفاء الحرائق المحتملة في هذا المربع الساخن من العالم، ليتفرغ أكثر لمواجهة الخطر الأكبر والمتمثل في الصين وتغولها الاقتصادي، الجاني لمزيد من النفوذ، وهو ما يصعب على القاهرة تحقيقه إذا ما وضعنا في الاعتبار المنطلق الأيديولوجي الذي تنطلق منه القاهرة في تعاملها مع غزة.
ملاحظة: مقللات الرأي ليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي صاحبها، وهي تعبّر عن رأي كاتبها