سقوط كابل.. بين مظنة المؤامرة وحلم الانتصار
في مايو1997 اعترفت السعودية والإمارات بحركة طالبان ممثلا شرعيا لدولة أفغانستان، بعد أن سيطرة الأخيرة على معظم الولايات بما فيها العاصمة كابل، قبل أن تعودا وتسحبا اعترافهما بالحركة في سبتمبر/أيلول 2001 كمقدمة لتوجيه أميركا وعدد من الدول الغربية ضربة قوية للحركة في معظم الولايات التي تسيطر عليها ومن ثم إسقاط العاصمة وبالنتيجة إسقاط حكم طالبان في نوفمبر من نفس العام وسقط العديد من قادة الحركة قتلى، كما سقط الآلاف أسرى لقوات التحالف الغربي.
انسحبت الحركة على إثر تلك المعارك إلى الولايات الشمالية، لتبدأ مرحلة جديدة من عمر أفغانستان رسم البيت الأبيض ملامحها كنموذج لما يجب أن يكون عليه العالم الثالث، تبشيرا بالديمقراطية، فكتب دستورا وشكل برلمانا و”انتخب” رئيسا للبلاد أقسم بحماية الدستور، ومصالح من كتبه.
لكن الحركة لم تستسلم وأعادت ترتيب صفوفها وعادت لتحمل السلاح في مواجهة من رأتهم وكلاء المحتل الأميركي، وأسس لذلك المفهوم وعضده فتاوى مئات العلماء في أفغانستان وباكستان، فوجهت الحركة بنادقها من جديد باتجاه المحتل الغربي ووكلائه ومن عاونهم ممن عمل معهم في الأمن أو الجيش أو القضاء أو الدوائر الحكومية، وبدأت منذ العام 2005 العمليات “الاستشهادية” كسلاح ناجع في استئصال عدوهم من الغرب ووكلائه، وتكبدت القوات الغربية آلاف القتلى وعشرات آلاف المصابين، كما حصلت القوات الحكومية على حصتها من الخسائر.
بدأت الحكومات الغربية تغير من قناعتها وتعيد حسابتها في أفغانستان، وبدأ الحديث عن الحل السياسي للأزمة أفضل من الحل العسكري؛ الذي اختاروه في البداية، وفي 2013 فتحت قطر مكتبا للحركة تمهيدا للبدء في المسار السياسي الذي لم تمانعه الحركة، وهو ما أعده المراقبون تحولا جذريا في مسار الأزمة الأفغانية، مع ذلك لم تترك الحركة سلاحها ولم تهدئ العمليات العسكرية ضد القوات الغربية ووكلائها على السواء، ولعل الرد الأشهر في هذا السياق هو ما قاله المتحدث باسم حركة طالبان ذبيح الله مجاهد، عندما طلب منه ممثل أميركا في المفاوضات أن يلقوا السلاح من أجل التفاوض فقال “لولا هذا السلاح ما جلستم معنا من البداية”.
فجمعت الحركة بين الدبلوماسية والعسكرية، لترسم حقيقة جديدة عن نضج الحركة وفهمت واقع قواعد اللعبة، ولعل التطمينات التي أطلقتها الحركة خلال الأيام الأخيرة، بعد أن اجتاحت الولايات ودانت لها الواحدة تلو الأخرى، يؤكد أن حقبة جديدة تنتظر أفغانستان، ولعل الأيام شاهد إما لها أو عليها.
سقوط الاتفاق أم اتفاق السقوط؟
يقضي الاتفاق الذي جرى التوقيع عليه بين الولايات المتحدة وحركة طالبان في الدوحة بتاريخ 29 فبراير/شباط 2020 على انسحاب جميع القوات الأجنبية من أفغانستان في غضون 14 شهرا، مع تخفيض أميركا قواتها في أفغانستان إلى 8600 في غضون 6 أشهر، تبدأ من تاريخ توقيع الاتفاق، على أن تسحب الولايات المتحدة وحلفاؤها قواتهم من 5 قواعد عسكرية في غضون 135 يوما، مع رفع العقوبات الأميركية عن قيادات حركة طالبان بحلول 27 أغسطس/آب 2020.
كما نص الاتفاق على إطلاق سراح ما يصل إلى 5 آلاف سجين من طالبان، في المقابل تطلق الحركة ما يقارب الألف سجين من قوات الطرف الآخر، ولعل البند الأخير في صيغته المبهمة، يوحي أن الحركة كانت تتحفظ على عدد من الجنود الغربيين، مع الجنود الحكوميين، وإن كان الأمر يحتاج لتدقيق.
الاتفاق وبنوده يشكل في مجمله انتصارا، لا يمكن الاحتفال به إلا إذا ما نفذ، ما جعل الحركة تستمر في روتينها شبه اليومي، من استهداف القوات الأجنبية والحكومية، وهو على ما يبدو سرع من إعلان الرئيس الأميركي إجلاء قواته من قاعدة باغرام الجوية التي تضم عشرات آلاف العسكريين الغربيين.
لكن الرئيس الأفغاني السابق أشرف غني كان يماطل في تنفيذ ما يخصه من الاتفاق، فيما يتعلق بمعتقلي طالبان، وهو ما اتخذته الحركة ذريعة للتحرك باتجاه كابل، وهو ما رد عليه غني وحكومته بأنه سقوط للاتفاق الموقع بين أميركا “الممثلة للحكومة” وبين حركة طالبان، وعلى القوات الأميركية والغربية الدفاع عن الحكومة، وإيقاف الحركة التي عادت لحمل السلاح والتحرك باتجاه العاصمة، وهو ما لم يحدث، وكانت تصريحات واشنطن تدور حول أن الدعم الجوي والعسكري للحكومة ينتهي بانتهاء الشهر الجاري، وهو ما جعل الحركة ترى الاتفاق وآليات تنفيذه وتعطيل غني لبنوده اتفاق المسكوت عنه، لسقوط غني والحكومة الأفغانية وعودة “الإمارة الإسلامية” كما يحلو لطالبان تسميتها.
سقوط كابل بين مظنة المؤامرة وحلم الانتصار
في 15 أغسطس/آب الجاري وبمقدمات الزحف والحصار، سقطت العاصمة كابل بيد حركة طالبان، وهرب الرئيس أشرف غني هو وعدد من مساعديه إلى طاجيكستان، بحسب مسؤول كبير في وزارة الداخلية الأفغانية، لكن الحدث أثار لغطا رغم حقيقة وقوعه، بين مشكك لما حدث وكيفية حدوثه، وبين مؤيد للطريقة التي حدث بها متهما الفريق الأول بمحاولات تأصيل الهزيمة في نفوس الأمة.
يرى الفريق الأول أن سقوط الولايات بهذه السرعة وفي أقل من شهر ليس عملا سهلا ولا يمكن أن يصدق، بالنظر إلى فترة الـ20 عاما التي انحسرت فيها طالبان في الجبال أو على أقصى تقدير في المدن الشمالية، ويرون أن اتفاق أميركا الذي وصفه الكثيرون بالمذل، إنما كان اتفاقا ضمنيا على تسليم السلطة بشروط لم تذكر، لا في الديباجة ولا في المتن ولا حتى في المسودة، وهي أن تكون الحركة وليجة أمام تنظيم القاعدة، منفذ هجمات 11 سبتمبر، كما تكون سدا أمام التمدد الإيراني، وعائقا أمام التمدد الصيني.
ولعل تصريحات رئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية الأفغاني، عبد الله عبد الله، بأن الرئيس أشرف غني غادر البلاد ووضع الشعب والبلاد في مثل هذا الموقف السيئ، وسيحاسبه الله والشعب عليه، يقرأ على أن غني لم يطلع أحد على الطبخة التي تم تحضيرها في واشنطن، وقدمت في الدوحة، وتوافق عليها الجميع، تؤكد ما ذهب إليه هذا الفريق، كما أن تعليق وزير الدفاع عن الأحداث، بأن أشرف غني قيد الجيش وتركهم وغادر، يعني أنه أيضا لم يعلم بما خطط، مما يؤكد الفكرة نفسها.
في حين يرى الفريق الثاني أن التقدم السريع للحركة له أصل في التاريخ الأفغاني، وتاريخ الحركة نفسها، في تسعينيات القرن الماضي حينما كانت تُسقط المدن والولايات تترى في وقت كانت العشائرية والقبلية والعرقية مسيطرة ودافعا للزود والقتال.
ففي سبتمبر/أيلول 1996 دخلت طالبان مدينة ننغرهار ثم سقطت ولاية لغمان، تبعتها ولاية كونر، فمديرية سروبي لتتقدم الحركة إلى منطقة بل تشرخي، لتفتح الطريق بعدها لسقوط كابل وتعدم الرئيس السابق نجيب الله، وتعلن الإمارة الإسلامية بعد سقوط قاعدة باغرام الجوية، كما يرون في الفريق الذي يروج لطبخة سقوط كابل، أنه الفريق المهزوم تاريخيا ونفسيا وحضاريا، ويريد أن تبقى الأمة في هزائمها، أو أبعد من ذلك، فيرون فيهم طابورا خامسا يريد أن يقتل أي انتصار للأمة، ومن ثم يعمل لصالح أعدائها.
دروس بين يدي الأحداث
بعيدا عن جدل الفريقين، فإن دروسا يجب الوقوف عندها مليا، سواء في تطورات المشهد أو معطياته وصولا للفصل الذي لا أراه الأخير، في قصة التدافع في أمتنا الإسلامية، كما يجب الوقوف عند القصة التي ستروى في المستقبل عن دولة إسلامية أعلنت عن نفسها قي 15 أغسطس/آب 2021 ، قصة لا يكتب أصحابها صفحاتها ولا كلماتها ولا حتى حروفها وحدهم، شاء الأفغان أم أبوا، فإن فاعلين كثر سيضعون مداد أقلامهم في تلك القصة، فأفغانستان المحاطة بـ6 دول، ومطمع لأميركا حديثة العهد بالانسحاب منها، وبريطانيا الحالمة للعودة وتعويض الانسحاب المذل، محبوسة وتحتاج لجيرانها، كما تحتاج للعالم إذا ما صدقت الحركة في تصريحاتها لبناء دولة حديثة.
الدرس الأول والأهم هو أن الحركة بفعلها هذا في معرض كشف تموضع الأمة بين الأمم وحقيقة فكرها ومنهجها الذي لا تزال تبحث عنه وعن ذاتها منذ سقوط الخلافة، وقت أن كانت “الخلافة” تجمع شتاتها من دون أن تترك أدبيات حقيقية و”منفستو” يسير عليه من يريد لتلك الأمة مجدها، وهو سؤال كبير في معنى الإسلام الحقيقي وطرق الحكم وسياسة الناس، في ظل معطيات تفرضها أطراف مغايرة من منطلق القوة، ورسختها بغزوها الثقافي والحضاري للأمة، فانتصار طالبان الحقيقي يكمن في إنتاج دولة مبصرة تمشي على الشوك من غير أن تجرح ثوابت عقيدتها.
الدرس الثاني أن أميركا فشلت في بناء نموذج الدولة الديمقراطية الذي وعدت به سواء في أفغانستان أو العراق، كما فشلت في حمايته رغم مليارات الدولارات التي انتزعتها من حكامنا لتنفقها على الجيوش التي دربتها، ومع أول مواجهة حقيقية تنهار تلك الجيوش، وهو ما يعني أن أميركا لم تصنع، على المستوى السياسي أو العسكري، إلا رجال فزاعة ولا يرقون لأكثر من ذلك، ينهارون إذا ما هزتهم الشعوب، فإن كان الأمر كذلك فإن ما حدث في أفغانستان يضع الشعوب عند مسئولياتها.
الدرس الثالث هو ذلك التسلسل الذكي الذي اتبعته طالبان في دخول القرى والمدن؛ وتطمين أهلها وإخراج المناهضين منها بعد تأمينهم من خلال فتح مساحة لملاذ يختارونه ومن ثم يتم تحييدهم من معادلة الصراع، وهو ما يفسر السقوط السريع للمدن والولايات ويفسر معه عدم إراقة الدماء.
والدرس الرابع هو تعلم الدبلوماسية وقواعدها، ولعل تلك المهارات نضجت مع نضوج التجربة، فلم تولد الحركة بهذا النضج، ولعل فواعل من الخلف دفعت لإنضاج هذه الملكات للوصول لتلك النتائج، التي ما كانوا ليصلوا إليها لولا تلاقي إرادة الأطراف التي رغبت في الهروب من مستنقع أوقعها فيه غباء الحسابات وسوء التقديرات ومن ثمة كلفها فاتورة عالية ستستمر إذا ما استمروا.
وأخيرا، وبين مظنة المؤامرة وحلم الانتصار؛ على الجميع أن يعمل، فالعالم لن ينتصر لك، فكل مشغول بصناعة مجده، والحقيقة التي يجب أن ندركها أن هذا المجد لا يصنع إلا على أكتاف الضعفاء، لكن علينا أن نفهم معنى “أعدوا” على وجهه الصحيح فقد تسكرك نشوة القوة، إلا أن الخمر حتما تودي إلى المهالك.