عندما أشهر الشيخ جراح سيف القدس
الشيخ جراح البداية والمنتهى
أشعل الثبات البطولي للمقدسيين دفاعا عن حي الشيخ جراح؛ القدس بكاملها. وحي الشيخ جراح ليس حيا عاديا وإنما هو استثناء لما له من أهمية جيواستراتيجية وجيوسياسية في معادلة الصراع على مدينة القدس.
ولو رجعنا قليلا إلى تاريخ الصراع فعلينا البدء من تاريخ الرابع عشر من أيار/ مايو عام 1948، موعد إنهاء الانسحاب البريطاني من فلسطين، وإعلان قيام دولة “إسرائيل” المزعومة، وهو ما دفع الجيوش العربية للقتال إلى جانب الفلسطينيين. وبالحيلة وقعت القدس الغربية بالإضافة إلى مناطق أخرى تقارب أربعة أخماس فلسطين تحت سيطرة الصهاينة متجاوزة، بذلك قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة.
مع ذلك بقيت القدس العربية تحت سيطرة الأردن، تبع ذلك إصدار الأمم المتحدة القرار رقم 194 في كانون الأول/ ديسمبر 1948 الذي أكد على مبدأ تدويل المدينة. وعلى الرغم من قبول العرب؛ رفض الاحتلال الفكرة لكنه وافق على تدويل الأماكن المقدسة، ما دفع الأمم المتحدة إلى إصدار القرار رقم 303 في كانون الأول/ ديسمبر 1949 مؤكدة عزمها على وضع القدس تحت نظام دولي خاص، يضمن حماية الأماكن المقدسة، وعهدت إلى مجلس الوصاية بتنفيذ القرار. لكنه فشل تحت ضغط الصهاينة ومماطلتهم حيث أعلن الاحتلال نقل عاصمته إلى القدس، ما جعل الأردن يعلن ضم الجزء الذي وضع يده عليه أثناء الحرب.
ومع اندلاع حرب حزيران/ يونيو 1967، أتيحت الفرصة للاحتلال الصهيوني للاستيلاء على بقية المدينة. ففي صبيحة السابع من حزيران/ يونيو بادر مناحيم بيجين باقتحام المدينة القديمة، والاستيلاء عليها بالكامل، وكانت نوايا الصهاينة منذ اليوم الأول تتمحور حول تهجير أكبر عدد ممكن من سكان المدينة لتسهيل السيطرة عليها وابتلاعها. وبالفعل كان أول عملهم هو هدم حي المغاربة المحاذي لحائط البراق، لتتوالى إجراءات الهدم والاستيلاء والتهجير بكافة الطرق التي شملت العمليات العسكرية وإحداث الفوضى، وصولا إلى استخدام القانون والقضاء لإظهار الأمر على أنه نزاع قانوني ينتهي بالحكم بطرد الفلسطينيين في كل مرة!
ولرسم خريطة تفاعلية لمزيد من فهم لماذا حي الشيخ جراح، علينا أن نتفق أن المسجد الأقصى هو المستهدف بطبيعة الحال، فإن إزالة كل الأحياء والمناطق العربية الفلسطينية سيكون الطريق للوصول لذلك الهدف. فشرق المسجد الأقصى نجد حي الصوانة، بلدة الطور، أما جنوب المسجد فتوجد بلدة سلوان بأحيائها (حي الثوري، راس العامود، حي البسان، حي وادي حلوة، حي بطن الهوا، حي وادي الربابة)، وتوجد أيضا بلدة جبل المكبر وبلدة صور باهر. أما شمال المسجد الاقصى فتجد حي وادي الجوز، وبلدة العيساوية، وشعفاط، وبيت حنينا، وأخيرا حي الشيخ جراح حامل شعلة الحراك الآن. وكل هذه البلدات والأحياء يتم التضييق عليها بقوة، لكي يصل بهم الحال إلى ما وصلت إليه الأحياء والبلدات غربي المسجد الأقصى، بعد أن تم إفراغها من العرب الفلسطينيين ويسكنها الآن شذاذ الأرض من الصهاينة. فهبّة الشيخ جراح منطقية لمعرفة أهلها والمقدسيين جميعا المصير المنتظر إن هم سكتوا.
سيف القدس والتغير النوعي في معادلة المواجهة
لكن الصمود الأسطوري للمقدسيين في حي الشيخ جراح وصمود المرابطين ومسانديهم من كل أنحاء القدس في المسجد الأقصى؛ دفع المقاومة إلى التحرك فالقوة لا يردعها إلا القوة، فأعلنت المقاومة في غزة إطلاق عملية سمتها سيف القدس لتخفيف الضغط على المقدسيين عامة والمرابطين في الأقصى خاصة، وهو ما كان إلى حد بعيد. فيكفي أن كل الفعاليات التي خطط لها من قبل الصهاينة والمحمية من حكومة الاحتلال قد ألغيت، والآن لو تبحث عن هؤلاء “الأشاوس” المستقوين على العزّل في الأقصى والشيخ جراح هم الآن في المخابئ تحت الأرض.
ولعل بنك أهداف المقاومة والتي باتت أكثر دقة من ذي قبل يربك حكومة الاحتلال وجيشها، فلم تعد تحميهم قبتهم الحديدية بعد أن أدت أداء ارتجاليا مرتبكا من كثافة صواريخ المقاومة وتنوعها. ولعل أيضا جعبة المقاومة مليئة بالمفاجآت ليس فقط على مستوى الأهداف، بل أيضا على مستوى الأدوات، فلم تظهر في سماء المدن المحتلة بعد إلا مسيّرتين أو ثلاثا حتى كتابة هذه السطور، ولم تتحرك بعد الصاعقة الحرية ولم تتحرك القوات البرية المتشوقة للقاء المحتل.
ولعل الهجوم البري الخادع الذي نفذته قوات الاحتلال منذ أيام وتصدي المقاومة له بذكاء فائق من دون إظهار أماكن رباطهم؛ هو درس أعاد قادة جيش الاحتلال للبحث في مراجع العسكرية في محاولة لفهم عقلية خصومهم من المقاومة. أصبح للمقاومة يد طولى تصل لأبعد نقطة في الكيان المحتل وأصبحت كل نقطة في جغرافية مدن الاحتلال ومواقعها العسكرية أهدافا بموجب قاعدة الرد بالمثل بعد استهداف الاحتلال المدن والمدنيين، ما جعل عملية سيف القدس تكتب صفحة جديدة تغير بها معادلة المواجهة بين المقاومة والاحتلال، وهو ما يؤكد أن المقاومة منذ 2014، آخر مواجهة مع الاحتلال، إلى اليوم لم تنم لحظة وهي تطور من نفسها.
تغير في مواقف الأطراف بعد أن أشهر الشيخ سيفه
هذا التغير في معادلة المواجهة بين المقاومة والاحتلال، أحدث تغيرا نوعيا في أطراف المعادلة، سواء الفاعلين الأصليين أو الداخلين في دائرة الفاعلية أو الداعمين أو حتى المراقبين. فعملية سيف القدس انطلقت دفاعا عن الأقصى ولم تكن وقت انطلاقها مدفوعة بالرد على عدوان على مناطق مرابطة المقاومة في غزة فلم تكن غزة مستهدفة وقتها، بل على العكس إن العملية استعدت طائرات العدو لقتل قادتها واستهداف المدنيين الآمنين وهدم بيوتهم. مع ذلك فإن تغييرا كبيرا حدث وأحدث معه تغيرا في مواقف الأطراف.
هذا التغير لم يحدثه سيف القدس الذي أشهر فقط، بل أحدثه أيضا صمود أهل غزة تحت القصف. فالأطراف المناهضة كانت تعول على تململ أهل غزة وإدخالهم في معركة لا تخصهم، لكن الوعي بشمولية القضية وقدسية الأقصى قوة الحاضنة الشعبية وجعلها تلتف أكثر حول المقاومة، حتى في ظل محاولات المرجفين في ضرب إسفين بالتشكيك في أهداف العملية وتصويرها بأنها للفت الأنظار عن إيران وتخفيف الضغط عليها.
والعامل الثاني الذي جعل الكل يغير مواقفه وأولهم الاحتلال نفسه، هو ذلك الصمود الأسطوري للداخل الفلسطيني وللمقدسيين ودخولهم على خط المواجهة في خطة الإرباك الشامل التي ترسل رسائلها المشفرة من قبل المقاومة، والتي لاقت قبولا ممزوجا بالمسؤولية ما وحّد الداخل وغزة، لتدخل الضفة على الخط رغم حصارها المزدوج من الاحتلال والسلطة.
كما أن الهبة الشعبية الرمزية والزحف باتجاه الحدود في الأردن ولبنان والمطالبة بمثلها في مصر دفعت كل هذه الأطراف الفاعلة في الأزمة والمؤثرة فيها بنسب مختلفة لأن تغير مواقفها. فمنهم من قرر فتح معبره لتلقي الجرحى، وإن كان حتى كتابة هذه السطور تصريحا إعلاميا، ومنهم من تحرك دبلوماسيا، في اتصالات ثنائية ومنهم من ناضل من أجل عقد جلسة طارئة في مجلس الأمن رغم رفض أمريكا، والاتحاد الأوروبي عقد جلسة الثلاثاء، حتى السعودية جاءت إلى رفد الأقصى كي تغسل وجهها.. كل هذا لم يكن ليحدث لولا سيف القدس الذي أشهره الشيخ جراح، فلطالما استباح المستوطنون الأقصى ولطالما هجر الاحتلال المقدسيين وفلسطينيي الداخل، لكن السيف إذا أشهر ففي حده الحد بين الجد واللعب.
الشيخ جراح يقود ثورة الأمة
حراك الداخل الفلسطيني بالتوازي مع عملية سيف القدس، وصمودهم الأسطوري الذي يقابله صمود لا يقل في قوته صمودا من أهل غزة الذين يقدمون الشهداء والمصابيين ويقدمون من ممتلكاتهم وأموالهم فداء للأقصى والقدس، جعل العالم يقف إجلالا وتقديرا، ودفع العرب والمسلمين لا في بلادهم فحسب بل في بلاد الإقامة والمنافي الطوعية أو الجبرية للخروج دفاعا عن الأقصى والقدس وفلسطين وعن المقاومة وسيف الشيخ جراح. ولعل معركة الوعي فاصلة في هذه القضية، ولعل أيضا كاتب هذه السطور حاول أن يساهم في تلك المعركة من خلال مقال “الشيخ جراح يقود ثورة الأمة” المنشور هنا ويمكن الرجوع له.
إن ما تفعله المقاومة الآن هو عملية تثوير للشعوب العربية والإسلامية، وما يفعله الفلسطينيون في الداخل ودخولهم على خط المقاومة بصدورهم العارية وإمكانياتهم الضعيفة أشعل ما حاول المطبعون والغرب إخماده على مدى عقود، وأسقط نظرية التعايش التي أنفقت عليها المليارات، فلقد أنفقوا واليوم تكون عليهم حسرة.
ولا يمكن فهم هذا التحول والهرولة التي يقوم بها الحكام العرب نحو التهدئة وأخذ صورة بخلفية الأقصى إلا خوفا من تغير الشعوب وتحركها نحو التحرر، فالقدس هي قضيتنا المركزية التي بها نتجمع وعليها نتفق، وما يحدث في العراق وسوريا ومصر وليبيا وتونس والسودان والجزائر، وتسييس الأمور في باقي الدول العربية والإسلامية، إنما كلها سياسات خادمة لقتل القضية المركزية وإفراغها من حاضنتها الشعبية.
ولعل نصرة الأقصى تبدأ من الثورة الحقيقية بالتخلص من الظلم والقمع الذي تدعمه الإمبريالية العالمية، من خلال موظفين ينفذون بدقة تعليمات من شأنها تشتيت الجهود وخلق الفتن، بالإغراق في التفصيلات دون النظر إلى شمولية القضية. ومن ينخرطون في مثل هذا إنما هم ضعاف نظر وقاصرو التفكير. فالسياسة هي فن الاستفادة من الممكن، وهي أيضا فن اكتساب القوة وتوزيعها والمحافظة عليها.